الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال: إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب دلائل النبوة، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به.وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا» قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: «قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا».وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي- فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله: «ليس بفظ ولا غليظ»: «ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح».ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي (1) حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم- من ولد جبير بن مطعم- قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد- وهي جدتي- عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال: فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال: إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر، رضي الله عنه.وقال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قَرْنا. قال: فرفع عمر الدرة وقال قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمير شديد. قال: فكيف تجد الذي بعدي؟ قال: أجد خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال: يا دفراه، يا دَفْراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق.وقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كان حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله تعالى به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر- هو العقدي عبد الملك بن عمرو- حدثنا سليمان- هو ابن بلال- عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه». هذا حديث جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، والذي هو أنجي والذي هو أتقى.ثم رواه عن يحيى عن ابن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه.وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث.قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.وقال بعض العلماء: كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه كلام طويل أيضا.وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي: إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة». وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا». وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره.وقد كانت الأمم الذين كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل» وقال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت.وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أي: عظموه ووقروه، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ} أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة. اهـ.
|